فصل: تفسير الآيات رقم (17- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏عَمّ يتساءلون‏}‏، وأصله‏:‏ «عمّا» فحذفت الألف، كما قال في الألفية‏:‏

وما في الاسْتِفهامِ إن جُرَّت حُذِفْ *** أَلِفهَا وأَوْلهَا الها إنْ تَقْفِ

وحذفها إمّا للفرق بين الاستفهامية والموصولة، أو للتخفيف، لكثرة الاستعمال، وقُرىء بالألف على الأصل، أي‏:‏ عن شيءٍ يتساءلون‏.‏ والضمير لأهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، يسأل بعضُهم بعضاً، ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاءً، وليس السؤال عن حقيقته، بل عن وقوعه، الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإنَّ «ما» كما يُسأل بها عن الحقيقة يُسأل بها عن الصفة، فتقول‏:‏ ما زيد‏؟‏ فيقال‏:‏ عالم أو طبيب‏.‏

وقيل‏:‏ النبأ العظيم هو القرآن، عجب من تساؤلهم واختلافهم وتجادلهم فيه‏.‏ والاستفهام للتفخيم والتهويل والتعجيب من الجدال فيه، مع وضوح حقه وإعجازه الدالّ على صدق ما جاء به، وأنه من عند الله، فكان ينبغي ألاّ يجادل فيه، ولا يتساءل عنه، بل يقطع به ولا يشك فيه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ نَبَؤاْ عَظِيمُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ النبأ العظيم‏:‏ كلامه القديم عظيم بعظم الله القديم، لا يَنال بركته إلاّ أهل الله وخاصته‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يسألون المؤمنين، فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد، كما في قولك‏:‏ تراؤوا الهلال‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عن النبأ العظيم‏}‏ يتعلق بمحذوف، دلّ عليه ما قبله، فيوقف على «يتساءلون» ثم ليستأنف «عن النبأ‏.‏‏.‏‏.‏» الخ، أي‏:‏ يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو البعث وما بعده، أو القرآن، فتكون المناسبة بين السورتين قوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيْ حَدِيِث بَعْدَهُ يُؤْمِنُون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 50‏]‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏عن النبأ العظيم‏}‏، والأحسن‏:‏ أنه كل ماجاءت به الشريعة من البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك‏.‏

قال ابو السعود‏:‏ هو بيان لشأن المسؤول عنه، إثر تفخيمه بإبهام أمره، وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتنزيلهم منزلة المستفهمين، لإيراده على طريقة الاستفهام من علاّم الغيوب، للتنبيه على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق، حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه، كأنه قيل‏:‏ عن أي شيء يتساءلون، هل أُخبركم به، ثم قيل بطريق الجواب‏:‏ عن النبأ العظيم، على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ ف «عن» متعلقة بما يدل عليه المذكور وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً، مسارعة إلى البيان، هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية، وقد قيل‏:‏ هي متعلقة بالمذكور، و«عَمَّ» متعلق بمضمر مفسَّر به، وأيّد ذلك بأنه قُرِىء «عمَّه»، والأظهر‏:‏ أنه مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقيل‏:‏ «عن» الأولى للتعليل، كأنه قيل‏:‏ لِمَ يتساءلون عن النبأ العظيم‏؟‏ والنبأ‏:‏ الخبر الذي له شأن وخطر‏.‏ ه‏.‏

‏{‏الذين هم فيه مختلفون‏}‏، فمنهم مَن يقطع بإنكاره، ومنهم مَن يشك، فمنهم مَن يقول‏:‏

‏{‏مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ ومنهم مَن يقول‏:‏ ‏{‏مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ ومنهم مَن يُنكر المعادين معاً، كهؤلاء، ومنهم مَن يُنكر المعاد الجسماني كبعض أهل الكتاب‏.‏ أو‏:‏ في القرآن، فمنهم مَن يقول‏:‏ سحر، ومنهم مَن يقول‏:‏ كهانة، ومنهم مَن يقر بحقيّته، ويُنكره حسداً وتكبُّراً‏.‏ والضمير في «هم فيه» للتأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لمّا كان خوضهم فيه أكثر وتعقبهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به‏.‏ ه‏.‏ قاله الطيبي‏.‏ ف «فيه» متعلق ب «مختلفون»، قُدِّم اهتماماً به ورعاية للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات، أي‏:‏ هم راسخون في الاختلاف، وقيل‏:‏ المراد بالاختلاف‏:‏ مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في إثباته، حيث أنكروه، فيحمل الاختلاف على صدور الفعل من متعدد، لا علَى مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد، لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر، إذ لا حقيّة في شيء منهما حتى يستحق مَن يخالفه المؤاخذة، بل لمخالفته له صلى الله عليه وسلم في إثباته‏.‏ ه‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع عن الاختلاف والتساؤل بالمعنى المتقدم، ‏{‏سيعلمون‏}‏ عن قريبٍ حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال، ‏{‏ثمَّ كلاَّ سيعلمون‏}‏، تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد‏.‏ والسين للتقريب والتأكيد‏.‏ و«ثم» للدلالة على أنَّ الوعيد الثاني أبلغ وأشد، وقيل‏:‏ الأول عند النزع، والثاني عند القيامة، وقيل‏:‏ الأول للبعث، والثاني للجزاء‏.‏ وقُرىء «ستعلمون» بالخطاب على نهج الالتفات، تشديداً للردع والوعيد، لا على تقدير‏:‏ قل لهم؛ للإخلال بجزالة النظم الكريم‏.‏

الإشارة‏:‏ إن ظهرت أنوار الطريق، ولاحت أسرار أهل التحقيق، كثر الكلام بين الناس فيها، والتساؤل عنها، فيُقال في شأنهم، عمَّ يتساؤلون عن النبأ العظيم، الذي هو ظهور الحق وشهوده، الذي هم فيه مختلفون، فمنهم مَن يُنكره رأساً، ومنهم مَن يُقره في الجملة، ويقول‏:‏ هم لقوم أخفياء لا يعرفهم أحد، كلاَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى، ويندم المفرط، حيث لا ينفع الندم وقد زلّت به القدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 16‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرضَ مِهاداً‏}‏ أي‏:‏ بساطاً وفراشاً، فرشناها لكم حتى سكنتموها‏.‏ وقُرىء «مَهْداً» تشبيهاً لها بمهد الصبي، وهو ما يمهّد له لينام عليه، تسمية للممهود بالمصدر‏.‏ ولمّا أنكروا البعث قيل لهم‏:‏ ألم يَخلُق مَن أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة، فلِمَ تُنكرون قدرته على البعث‏؟‏ وما هو إلا اختراع مثل هذه الاختراعات، أو‏:‏ قيل لهم‏:‏ لِمَ فعل هذه الأشياء، والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، وإنكارُ البعث يؤدّي إلى أنه عابث في كل ما فعل‏؟‏ ومن هنا يتضح أنَّ الذي وقع عنه التساؤل هو البعث، لا القرآن أو نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل‏.‏ والهمزة للتقرير‏.‏ والالتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في الإلزام والتبكيت‏.‏

‏{‏والجبالَ أوتاداً‏}‏ للأرض، لئلا تميد بكم، فأرساها بها كما يُرسى البيت بالأوتاد، ‏{‏وخلقناكم أزواجاً‏}‏ ذكراً وأنثى، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتيسر التناسل‏.‏ وقيل‏:‏ خلقناكم أصنافاً وأنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، وهو عطف على المضارع المنفي، داخل في حكم التقرير، فإنه في قوة‏:‏ إنما جعلنا الأرض‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

‏{‏وجعلنا نَومكم سُباتاً‏}‏ أي‏:‏ راحة لكم، أو‏:‏ قطعاً للأعمال والتصرُّف، فتريحون أبدانكم به من التعب‏.‏ والسبْت‏:‏ القطع‏.‏ أو‏:‏ موتاً؛ لِما بينهما من المشاكلة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

‏{‏وجعلنا الليلَ لباساً‏}‏ يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، شبّهه بالثياب التي تلبس، لأنه يستر عن العيون، وقيل‏:‏ المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه‏.‏ ‏{‏وجلعنا النهارَ معاشاً‏}‏ أي‏:‏ وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم، الذي هو أخو الموت، كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ أي‏:‏ تنتشرون فيه من نومكم، أو تطلبون فيه معاشكم، وتتقلبون في حوائجكم، على حذف مضاف، أي‏:‏ ذا معاش‏.‏

‏{‏وبنينا فوقكم سَبْعاً شِداداً‏}‏ أي‏:‏ سبع سموات، قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثّر فيها مرّ الدهور، ولا المرور والكرور‏.‏ والتعبير عنها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبة المضروبة على الخلق، وهو يؤيد كونها الأفلاك المحيطة‏.‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ فيها ‏{‏سِراجاً وهَّاجاً‏}‏ أي‏:‏ مضيئاً وقّاداً، أي‏:‏ جامعاً للنور والحرارة، وهو الشمس، والوهَّاج‏:‏ الوقّاد المتلألىء، من‏:‏ وهجت النار إذا أضاءت، أو البالغ في الحرارة، من‏:‏ الوهج، وهو الحر‏.‏ والتعبير عنها بالسراج مناسب للتعبير عن السموات بالبناء، فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل‏.‏ والجعل هنا بمعنى الإنشاء والإبداع، كالخلق، غير أنَّ الجعل مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية‏.‏

‏{‏وأنزلنا من المُعْصِرات‏}‏ أي‏:‏ السحاب إذا أعصرت، أي‏:‏ شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، ومنه‏:‏ أعصرت الجارية‏:‏ إذا دنت أن تحيض، والرياح‏:‏ إذا حان لها أن تعصر السحاب، وقد جاء‏:‏ أنَّ الله تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة، أي‏:‏ أنزلنا من السحاب ‏{‏ماءً ثَجَّاجاً‏}‏ أي‏:‏ منصباً بكثرة، يقال‏:‏ ثج الدم، أي‏:‏ أساله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أفضل الحج العجّ والثج» أي‏:‏ رفع الصوت بالتلبية، وصب دم الهَدْي‏.‏

‏{‏لنُخرج به‏}‏؛ بذلك الماء ‏{‏حباً‏}‏ يُقتات به، كالحنطة والشعير، ونحوهما ‏{‏ونباتاً‏}‏ يُعلف، كالتبن والحشيش‏.‏ قال الطيبي‏:‏ النبات أريد به النابت‏.‏ وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان‏.‏ ‏{‏وجناتٍ‏}‏؛ بساتين، من‏:‏ جنّة إذا ستره، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف لأنه يستر الأرض بظل أشجاره، وقال الفراء‏:‏ الجنة ما فيه النخل، والفردوس مافيه الكرم‏.‏ و‏{‏ألفافاً‏}‏ صفة، أي‏:‏ ملتفّةَ الأشجار، واحدها‏:‏ «لِفّ» ككِن وأكنان، أو‏:‏ لَفيف، كشريف وأشراف، أو‏:‏ لا واحد له، كأوْزاع وأضياف، أو جمع الجمع، فألفاف جمع «لُفّ» بالضم، و«لُفّ» جمع «لَفَّاء» كخُضر وخضراء، واللِّفُ‏:‏ الشجر الملتف‏.‏

قال أبو السعود‏:‏ اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله عزّ وجل دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ باعتبار قدرته تعالى، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة، من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، كان على الإعادة أقدر وأقوى‏.‏

الثاني‏:‏ باعتبار علمه وحكمته، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع، مستتبع لغايات جليلة، ومنافع جميلة، عائدة إلى الخلق يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية‏.‏

والثالث‏:‏ باعتبار نفس الفعل، فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجاً للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، شاهد على إخراج الموتى من القبور بعد الفناء والدثور، كأنه قيل‏:‏ ألم يفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية، الدالة بفنون الدلالات على حقيّة البعث، الموجبة للإيمان به، فما لكم تخوضون فيه إنكاراً، وتتساؤلون عنه استهزاءً‏؟‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم نجعل أرضَ البشرية مِهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية، وجبالَ العقل أوتاداً، يسكنونها لئلا يميلها الهوى عن الاعتدال في الاستقامة وخلقناكم أزواجاً أصنافاً؛ عارفين وعلماء، وعُبَّاداً وزُهَّاداً، وصالحين وجاهلين، وعصاة وكافرين، وجعلنا نومَكم، اي‏:‏ سِنَتكم عن الشهود بالميل إلى شيء من الحس في بعض الأوقات، سُباتاً، أي‏:‏ راحة للقلوب، لأنَّ دوام التجلَّي يمحقُ البشرية، وفي الأثر‏:‏ «رَوِّحوا قلوبكم بشيءٍ من المباحات» أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏ أو‏:‏ نومَكم الحسي راحة للأبدان، لتنشط للعبادة، وجعلنا ليل القطيعة لباساً ساتراً عن الشهود وجعلنا نهارَ العيان معاشاً؛ حياة للأرواح والأسرار، وبنينا فوقكم سبعَ مقامات شِداداً صعاباً، فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود، وهي التوبة النصوح والورع، والزهد، والصبر على مجاهدة النفس، وخرق عوائدها، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات سِراجاً وهّاجاً، وهي شمس العرفان لا تغرب أبداً، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ثجّاجاً، تحيى به الأوراح والأسرار، وهو ماء الواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، لنُخرج به حبًّا؛ حِكماً لقوت الأرواح، ونباتاً؛ علوماً لقوت النفوس، وجنات‏:‏ بساتين التوحيد، مشتملة على أشجار ثمار الأذواق وظلال التقريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ يومَ الفَصْلِ‏}‏ بين الخلائق، فيتميز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، ‏{‏كان‏}‏ في علم الله تعالى وتقديره ‏{‏ميقاتاً‏}‏؛ وقتاً محدوداً ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو‏:‏ ميعاداً لجمع الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر، وهو ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ نفخة ثانية، ف «يوم» بدل من «يوم الفصل»، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل، فإنه زمان ممتد، في مبدئه النفحة، وفي بقيته الفصل وآثاره‏.‏ والصُور‏:‏ القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل‏.‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لمّا خلق الله السموات والأرض خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضع له على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، حتى يؤمر بالنفخ فيه، فيؤمر به، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ الآية، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏‏.‏»

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتأتون‏}‏ فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أّنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ أي‏:‏ فتبعثون من قبوركم فتأتون عقب ذلك من غير لبث ‏{‏أفواجاً‏}‏؛ جماعات مختلفة الأحوال، متباينة، الأوضاع، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها، مِن راكب، وطائر، وماش خفيف وثقيل، ومكب على وجهه وغير ذلك من الأحوال العظيمة، أو‏:‏ أمماً، كل أمة مع رسولها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏‏.‏

‏{‏وفُتِحت السماءُ‏}‏ أي‏:‏ تشققت لنزول الملائكة، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه، ‏{‏فكانت أبواباً‏}‏؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج وما لها اليومَ من فُروج‏.‏ ‏{‏وسُيْرت الجبالُ‏}‏ في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها، ‏{‏فكانت سَرَاباً‏}‏؛ هباءً، تخيل الشمس أنها سراب، وهَل هذا التسيير قبل البعث فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات، كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 14، 15‏]‏ والفاء تقتضي الترتيب، أو لا يقع إلاّ بعد البعث، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة‏.‏ وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود، قال‏:‏ يُبدل اللهُ الأرض ويُغيّر هيئاتها، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها‏.‏ ه‏.‏ والله أعلم بحقيقة الأمر‏.‏

ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً، فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً‏}‏ أي‏:‏ موضع الرصد، وهو الارتقاب والانتظار، أي‏:‏ تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها، أو طريقاً يمر عليه الخلق، فالمؤمن يمر عليها، والكافر يقع فيها، أي‏:‏ كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها، ‏{‏للطاغين مآباً‏}‏‏:‏ نعت لمرصاد، أي‏:‏ كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة، ‏{‏لابثين فيها‏}‏، ماكثين فيها، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين‏.‏

وقرأ حمزة ‏(‏لبثين‏)‏، وهو أبلغ من «لابثين» لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام، و‏{‏أحقاباً‏}‏‏:‏ طرف للبثهم، جمع حُقب، كقُفْل وأقفال، وهو الدهر، ولم يرد به عدداً محصوراً، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب، إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها‏.‏ وقيل‏:‏ الحقب ثمانون سنة، ورُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه ثلاثون ألف سنة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود‏.‏

‏{‏لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً‏}‏‏:‏ حال من ضمير «لابثين» أي‏:‏ غير ذائقين فيها ‏{‏برداً‏}‏ أي‏:‏ نسيماً بارداً، بل لهباً حاراً، ‏{‏ولا شراباً‏}‏ بارداً، ‏{‏إلاَّ حميماً‏}‏؛ ماءً حاراً، استثناء منقطع، أي‏:‏ لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب، برداً، ولا ينفس عنهم غم حر النهار، أو‏:‏ نوماً، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد، لأنه يبرد سَوْرة العطش ولا شراباً يُسكن عطشهم، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً، يحرق ما يأتي عليه، ‏{‏وغسَّاقاً‏}‏ أي‏:‏ صديداً يسيل من أجسادهم‏.‏ وفي القاموس‏:‏ وغَساق كسَحاب وشدّاد‏:‏ البادرُ المنتن‏.‏ وقال الهروي عن الليث‏:‏ ‏(‏وغساقاً‏)‏ أي‏:‏ مُنتناً، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا، لأنتَنَ أهلُ الدنيا»، وقيل‏:‏ ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم، يقال‏:‏ غسقت عينه تغْسَق، إذا سالت‏.‏ ثم قال‏:‏ ومَن قرأ بالتخفيف، فهو البارد الذي يُحرق ببرده‏.‏ ه‏.‏

‏{‏جزاءً وِفاقاً‏}‏ أي‏:‏ جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة، مصدر بمعنى الصفة، أو‏:‏ ذا وفاق‏.‏ ‏{‏إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً‏}‏ أي‏:‏ لا يخافون محاسبة الله إياهم، أو‏:‏ لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه، ‏{‏وكذّبوا بآياتنا‏}‏ الناطقة بذلك ‏{‏كِذَّاباً‏}‏ أي‏:‏ تكذيباً مفرطاً، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي‏.‏ و«فعّال» في باب فعّل فاش‏.‏ ‏{‏وكلَّ شيءٍ‏}‏ من الأشياء، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة، ‏{‏أحصيناه‏}‏ أي‏:‏ حفظناه وضبطناه ‏{‏كِتاباً‏}‏، مصدر مؤكد لأحصينا؛ لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد، أو‏:‏ حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ أو في صحف الحفظة، والجملة اعتراض، وقولة تعالى‏:‏ ‏{‏فذُوقوا فلن نزيدكم إِلاَّ عذاباً‏}‏ مسبب عن كفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات، أي‏:‏ فذوقوا جزاء تكذيبكم والالتفات شاهد على شدّة الغضب‏.‏

روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ هذه الآية أشدُّ ما في القرآن على أهل النار»‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ يوم الفصل بين العمومية والخصوصية، أو تقول‏:‏ بين الانتقال من مقام أهل اليمين إلى مقام المقربين، كان في علم الله ميقاتاً، أي‏:‏ مؤقتاً، وهو يوم انتقاله من شهود الأكوان إلى شهود المكوِّن، أو من مقام البرهان إلى مقام العيان‏.‏ يوم يُنفخ في صور الأرواح التي سبقت لها العناية، فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج، فتأتون إلى حضرة القدس، تسيرون إليها على يد الخبير أفواجاً، وفُتحت سماء الأرواح ليقع العروج إليها من تلك الأرواح السائرة، فكانت أبواباً، وسُيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق، فكانت سراباً، فلا يبقى من نور العقل إِلاّ ما يميز به بين الحس والمعنى، وبين الشريعة والحقيقة‏.‏ إنَّ جهنم البُعد كانت مِرصاداً، للطاغين المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير، الباقين مع عامة أهل اليمين، مآباً لا يبرحون عنها، لابثين فيها أحقاباً مدة عمرهم وما بعد موتهم، لا يذوقون فيها برد الرضا، ولا شراب نسيم التسليم، إلاَّ حميماً‏:‏ حر التدبير والاختيار، وغساقاً‏:‏ نتن حب الدنيا وهمومها، جزاءً موافقاً لميلهم إلى الحظوظ والهوى، إنهم كانوا لا يرجون حِساباً، فلم يحاسبوا نفوسهم، ولا التفتوا إلى إخلاصها، وكذّبوا بأهل الخصوصية، وهم الأولياء الدالون على الله، ثم يقال لهم‏:‏ ذّوقوا وبال القطيعة، فلن نزيدكم إلاّ تعباً وحرصاً وجزعاً‏.‏ عائذاً بالله من سوء القضاء، وشماتة الأعداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ للمتقين مفازاً‏}‏ أي‏:‏ فوزاً ونجاة من كل مكروه، وظفراً بكل محبوب، وهو مَفْعَلٌ من الفوز، يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً، وهو الجنة، ثم أبدل البعض من الكل، فقال‏:‏ ‏{‏حدائقَ‏}‏؛ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر، جمع حديقة وأبدل من المفرد، لأنَّ المصدر لا يجمع بل يصلح للقليل والكثير، ‏{‏وأعناباً‏}‏، كرر لشرفه، لأنه يخرج منه أصناف مِن النِعم، ‏{‏وكواعبَ‏}‏؛ نساء نواهِد، وهي مَن لم تسقط ثديها لصغرٍ، ‏{‏أتراباً‏}‏ أي‏:‏ لَدَاتٍ مستوياتٍ في السنّ، ‏{‏وكأساً دِهاقاً‏}‏؛ مملوءة‏.‏

‏{‏لا يسمعون فيها‏}‏؛ في الجنة، حال من ضمير خبر «إن»، ‏{‏لَغْواً‏}‏؛ باطلاً، ‏{‏ولا كِذَّاباً‏}‏ أي‏:‏ لا يكذّب بعضهم بعضاً، وقرأ الكسائي بالتخفيف من المكاذبة، أي‏:‏ لا يُكاذبه أحد، ‏{‏جزاءً من ربك‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد منصوب بمعنى‏:‏ إنَّ للمتقين مفازاً، فإنه في قوة أن يقال‏:‏ جازى المتقين بمفاز جزاء كائناً من ربك‏.‏ والتعرُّض لعنوان الربوبية، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام، ‏{‏عَطاءً‏}‏ أي‏:‏ تفضُّلاً منه تعالى وإحساناً، إذ لا يجب عليه شيء، وهو بدل مِن «جزاء»، ‏{‏حِساباً‏}‏ أي‏:‏ مُحسِباً، أي‏:‏ كافياً، على أنه مصدر أقيم مقام الوصف، أو بولغ فيه، من‏:‏ أحسبه إذا كفاه حتى قال حسبي أو‏:‏ على حسب أعمالهم‏.‏

‏{‏ربِّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما‏}‏ بدل من «ربك» ‏{‏الرحمن‏}‏‏:‏ صفة له أو للأول فمَن جَرَّهما فبدل من «ربك»‏.‏ ومَن رفعهما ف «رب» خبر متبدأ محذوف، أو متبدأ خبره «الرحمن»، أو «الرحمن» صفة، و«لا يملكون» خبر، أو هما خبران، وأيًّا ما كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور، ‏{‏لا يملكون‏}‏ أي‏:‏ أهل السماوات والأرض ‏{‏منه خِطاباً‏}‏؛ معذرة أو شفاعة أو غيرهما إلاَّ بإذنه، وهو استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة، من غاية العظمة والكبرياء، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه، والتنكير في للتقليل والنوعية‏.‏ قال القشيري‏:‏ كيف يكون للمكوَّن المخلوق المسكين مُكْنةٌ أن يملك منه خِطاباً، أو يتنفَّسَ بدونه نفساً‏؟‏ كلاَّ، بل هو الله الواحدُ الجبّار‏.‏ ثم قال‏:‏ إنما تظهر الهيبةُ على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم‏.‏ وأمّا الخصوص فهم أبداً بمشهدِ العز بنعت الهيبة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏يومَ يقومَ الرُّوحُ‏}‏؛ جبريل عليه السلام عند الجمهور، وقيل‏:‏ مَلكٌ عظيم، ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه، يكون وحده صفًّا، ‏{‏والملائكةُ صفاً‏}‏‏:‏ حال، أي‏:‏ مصطفين ‏{‏لا يتكلمون‏}‏ أي‏:‏ الخلائق خوفاً، ‏{‏إِلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ‏}‏ في الكلام أو الشفاعة، ‏{‏وقال صَواباً‏}‏ أي‏:‏ حقًّا‏.‏

قال الطيبي عن الإمام‏:‏ فإن قيل‏:‏ لَمَّا أذن له الرحمن في التكلم عَلِمَ أنه حق وصواب، فما الفائدة في قوله‏:‏ ‏{‏وق صواباً‏}‏ ‏؟‏ فالجواب من وجهين، أحدهما‏:‏ أنَّ التقدير‏:‏ لا ينطقون إلاَّ بعد ورود الإذن والصواب، ثم يجتهدون في ألاَّ ينطقوا إلاَّ بالحق والصواب، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة‏.‏ وثانيهما‏:‏ أنَّ التقدير‏:‏ لا يتكلمون إلاَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له ممن قال صواباً، وهو قول لا إله إلاّ الله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والمعنى‏:‏ أن يُراد بالصواب‏:‏ استعمال الأدب في الخطاب، بمراعاة التعظيم، كما هو شأن الكلام مع الملوك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك اليومُ الحق‏}‏ أي‏:‏ الثابت المحقَّق لا محالة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه‏.‏ والإشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار أليه للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الهول والفخامة‏.‏ وهو مبتدأ، و«اليوم» خبره، أي‏:‏ ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والملائكة مصطفين، غير قادرين على التكلم عنهم ولا عن غيرهم من الهيبة والجلال، هو اليوم الحق، ‏{‏فمَن شاء اتخذ إَلى ربه مآباً‏}‏؛ مرجعاً بالعمل الصالح‏.‏ والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف، أي‏:‏ إذا كان الأمر كذلك من تحقُّق اليوم المذكور لا محالة، فمَن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً، أي‏:‏ إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم، فليفعل ذلك بالإيمان والطاعة، و«إلى ربه» يتعلق ب «مآب» قُدّم اهتماماً وللفواصل‏.‏

‏{‏إِنَّا أنذرناكم‏}‏ بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي، أو بسائر القوارع الواردة في القرآن، أي‏:‏ خوفناكم ‏{‏عذاباً قريباً‏}‏ هو عذاب الآخرة، وقُربه لتحقُّق وقوعه، وكل آتٍ قريب، ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏، وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه‏}‏ فإنه بدل من «عذاب» أو ظرف لمُضمر هو صفة له، أي‏:‏ عذاباً كائناً يوم ينظر المرء، أي‏:‏ يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر‏.‏ و«ما» موصولة، والعائد محذوف، أو استفهامية، أي‏:‏ ينظر الذي قدمته يداه، أو‏:‏ أي شيء قدمت يداه وقيل‏:‏ المراد بالمرء‏:‏ الكافر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويقول الكافرُ يا ليتني كنتُ تراباً‏}‏، وضع الظاهرَ موضع الضمير، لزيادة الذّم، أي‏:‏ يا ليتني كنتُ تراباً لم أُخلق ولم أُكلّف أو‏:‏ ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أُبعث‏.‏ وقيل‏:‏ يحشر اللّهُ تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء، ثم يرده تراباً، فيود الكافرُ أن يكون تراباً مثله، وقيل‏:‏ الكافر‏:‏ إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين قال‏:‏

‏{‏خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12 وص‏:‏ 76‏]‏‏.‏ قال الطيبي‏:‏ والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم‏.‏ ثم قال عن الإمام‏:‏ فإن قلتَ‏:‏ لِمَ خصّ بعد العموم قول الكافر دون المؤمن‏؟‏ قلت‏:‏ دلّ قول الكافر على غاية التحسُّر، ودلّ حذف قول المؤمن على غاية التبجُّح ونهاية الفرح بما لا يَحصُره الوصف‏.‏ ه‏.‏ قال المحشي‏:‏ والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء، لأنه المناسب للنذارة التي اقتضاها المقام‏.‏ ه‏.‏ قلتُ‏:‏ ولو ذكر قول المؤمن لقال‏:‏ ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه، تبجُّحاً وفرحاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ للمتقين الله حق تقاته مفازاً، وهو التخلُّص من رؤية الأكوان، والإفضاء إلى رؤية الشهود والعيان، وهو دخول حدائق العرفان، واقتطاف ثمار الوجدان، ونكاح أبكار الحقائق، وهنّ أتراب، لاستوائها غالباً في لذة الشهود لمَن تمكن منها‏.‏ ويشربون كأس الخمرة الأزلية، لا يسمعون في حضرة القدس لغواً ولا كِذاباً، لغاية أدبهم، جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام سيرهم، عطاءً كافياً مغنياً من الرحمن، لا يملكون منه خِطاباً، لغاية هيبتهم، وهذا لقوم أقامهم مقام الهيبة، وثَمَّ آخرون أقامهم مقام البسط والإدلال، وهم المتمكنون في معرفته، ينبسطون معه، ويشفعون في عباده في الدارين‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ مَن كان كلامه في الدنيا من حيث الكشف والمعاينة، فهو مأذون في الدنيا والآخرة، يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة، يُنقذ الله به الخلائق من ورطة الهلاك‏.‏ ه‏.‏

يوم يقوم الروح، أي‏:‏ جنس الروح، وهي الأرواح الصافية، التي التحقت بالملائكة، فتقوم معهم صفاً في مقام العبودية التي شرفت بها، لا يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة، إلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ في الشفاعة، على قدر مقامه، وقال صواباً، أي‏:‏ استعمل الأدب في مخاطبته فإذا استعمل الأدب شفع، ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيه‏.‏ حُكي أنّ بعض الأولياء قال عند موته‏:‏ يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الهاتف من قِبل الله تعالى‏:‏ لم يبلغ مقامك هذا، فقال‏:‏ يا رب إذا كان ذلك بعملي واجتهادي فلعَمري إنه لم يبلغ ذلك، وإذا كان ذلك بكرمك وَجُودك، فهو أعظم من ذلك، فشَفَّعه الحقُّ تعالى في الوجود‏.‏ هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم، سيدي «التاودي بن سودة» رحمه الله، فحُسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره‏.‏

ذلك اليوم الحق، تحِق فيه الحقائق، وتبطل فيه الدعاوى ويفتضح أهلها، فمَن شاء اتخذ إلى ربه مآباً، يرجع به إلى ربه، وهو حُسن التوجه إليه، برفض كل ما سواه‏.‏ ‏{‏إنَّا أنذرناكم عذاباً قريباً‏}‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ عذاب الالتفات إلى النفس والدنيا والهوى، يوم ينظر المرءُ ما قدَّمت يداه من الإساءة والإحسان ه‏.‏ ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية، حتى مات محجوباً‏:‏ يا ليتني كنتُ تُراباً، تحسُّراً على ما قاته من مقام المقربين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

فإنَّ جواب القسم‏:‏ لتُبعثن ثم لتعذِّبن‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والنازعاتِ‏}‏ أي‏:‏ والملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، كما قال ابن عباس أو أرواح الكفرة، كما قاله هو أيضاً وابن مسعود، ‏{‏غَرْقاً‏}‏ أي‏:‏ إغراقاً، من‏:‏ أَغرق في الشيء‏:‏ بالغ فيه غايةً، فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ تنزع روح الكافر مِن جسده من تحت كل شعرة، ومِن تحت الأظافر، ومن أصول القدمين، ثم تفرقها في جسده، ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده، فهذا عملها بالكفار دون المؤمنين‏.‏ أو‏:‏ تُغرقها في جهنم، فهو مصدر مؤكد‏.‏

‏{‏والناشطاتِ نشطاً‏}‏ أي‏:‏ ينشطونها ويخرجونها من الجسد من‏:‏ نَشط الدلو من البئر‏:‏ أخرجها‏.‏ ‏{‏والسابحاتِ سَبْحاً‏}‏ أي‏:‏ يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى‏.‏ شبّه سرعة سيرهم بسبح الهوام، أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج، ‏{‏فالسابقاتِ سبقًا‏}‏ فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، ‏{‏فالمُدبراتِ أَمْراً‏}‏ تُدبر أمر عقَابها وثوابها، بأن تهيئها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام والثواب، أو السابحات التي تسبح في مضيها، فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمراً من أمور العباد، مما يصلحهم في دينهم ودنياهم كما رُسم لهم‏.‏

أو‏:‏ يكون تعالى أَقْسَم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، غرقاً في النزع، بأن تقطع الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب، وتنشط من برج إلى برج، أي‏:‏ تخرج، من‏:‏ نَشط الثور‏:‏ إذا خرج من بلد إلى بلد، وتَسْبح في الفلك فتسبق بعضها بعضاً فتُدبر أمراً نِيط بها، كاختلاف الفصول، وتقدير الأزمنة، وتدبير مواقيت العبادة، وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية أي‏:‏ قهرية- وحركاتها من برج إلى برج ملائمةً عبَّر عن الأولى بالنزع، وعن الثانية بالنشط‏.‏

أو‏:‏ بأنفس الغُزاة، أو‏:‏ بأيديهم التي تنزع القِسي، بإغراق السهام، وينشطون بالسهم إلى الرمي، ويَسْبحون في البر والبحر، فيسبقون إلى حرب العدو، فيُدبرون أمرها، أو‏:‏ بصفات خيلهم، فإنها تنزع في أعنّتها نزعاً تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها، لأنها عراب، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، وتَسْبح في جريها، فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر والغلبة‏.‏ وسيأتي في الإشارة أحسن هذه الأقوال إن شاء الله‏.‏

وانتصاب «نشطاً» و«سَبْحاً» و«سبقاً» على المصدرية، وأما «أمراً» فمفعول به، وتنكيره للتهويل والتفخيم‏.‏ والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي؛ للإشعار بأنَّ كل واحدٍ من الأوصاف المعدودة من معظّمات الأمور، حقيق بأن يكون حياله مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام من غير انضمام أوصاف الآخر إليه‏.‏

والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتيبهما على ما قبلهما بلا مهلة‏.‏ والمقسم عليه محذوف، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعد من أحوال القيامة عليه، فإنَّ الإقسام بمَن يتولى نزع الأرواح، ويقوم بتدبيرها، يلُوح بكون المقسم عليه مِن قبل تلك الأمور لا محالة، ففيه من الجزالة ما لا يخفى‏.‏

أي‏:‏ لتُبعثن ‏{‏يومَ ترجُفُ الراجِفةُ‏}‏، فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف‏.‏ والرجف‏:‏ شدة الحركة‏.‏ والراجفة‏:‏ النفخة الأولى، وُصفت بما حدث عندها لأنها تضطرب لها الأرض حتى يموت مَن عليها، وتزلزل الجبال وتندك الأرض دكاً ثم ‏{‏تتبعها الرادِفةُ‏}‏؛ النفخة الثانية، لأنها تردف الأولى، وبينهما أربعون سنة، والأولى تُميت الخلق والثانية تُحْييهم‏.‏

‏{‏قلوبٌ يومئذٍ‏}‏، وهي قلوب منكري البعث، ‏{‏واجفةٌ‏}‏؛ مضطربة، من‏:‏ الوجيف، وهو الاضطراب، ‏{‏أبصارُها‏}‏ أي‏:‏ أبصار أصحابها ‏{‏خاشعةٌ‏}‏؛ ذليلة لهول ما ترى، ‏{‏يقولون‏}‏ أي‏:‏ منكرو البعث في الدنيا استهزاءً وإنكاراً للبعث‏:‏ ‏{‏أئنا لمردودون في الحافرة‏}‏، استفهام بمعنى الإنكار، أي‏:‏ أنُردّ بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياءً كما كنا‏؟‏ والحافرة‏:‏ الحالة الأولى، يُقال لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه‏:‏ رجع إلى حافرته، أي‏:‏ إلى حالته الأولى، يُقال‏:‏ لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه‏:‏ رجع إلى حافرته أي‏:‏ إلى حالته الأولى ويُقال‏:‏ رجع في حافرته، أي‏:‏ طريقته التي جاء فيها، فحفر فيها، أي‏:‏ أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، كقوله‏:‏ ‏{‏عيشة راضية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ على تسمية القابل بالفاعل‏.‏

أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا‏:‏ ‏{‏أئذا كنا عظاماً نخرةً‏}‏؛ بالية‏.‏ ونخرة أبلغ من ناخرة؛ لأنَّ «فَعِلٌ» أبلغ من فاعل، يقال‏:‏ نَخِرَ العظم فهو نَخِرٌ وناخر‏:‏ بِلَى، فالنَخِر هو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير، أي‏:‏ أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاماً بالية‏؟‏‏.‏ و«إذا» منصوب بمحذوف، وهو‏:‏ أنُبعث إذا كنا عظاماً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ منكروا البعث، وهو حكاية لكفر آخر، متفرع على كفرهم السابق، ولعل توسيط «قالوا» بينهما للإيذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم الأول المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم، حسبما يُنبىء عنه حكايته بصيغة المضارع، أي‏:‏ قالوا بطريق الاستهزاء، مُشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة، مشعرين بغاية بُعدها من الوقوع‏:‏ ‏{‏تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ‏}‏ أي‏:‏ رجفة ذات خسران، أو خاسر أصحابها، والمعنى‏:‏ أنها إن صحّت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاءُ منهم‏.‏

قال تعالى في إبطال ما أنكروه‏:‏ ‏{‏فإِنما هي زجرةٌ واحدة‏}‏ أي‏:‏ لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، بل هي أسهل شيء، فما هي إلاّ صيحة واحدة، يُريد النفخة الثانية من قولهم‏:‏ زَجَر البعير‏:‏ إذا صاح عليه‏.‏

‏{‏فإِذا هم بالسَّاهرةِ‏}‏ أي‏:‏ فإذا هم أحياء على وجه الأرض، بعدما كانوا أمواتاً في جوفها‏.‏ والساهرة‏:‏ الأرض البيضاء المستوية، سُميت بذلك، لأنَّ السراب يجري فيها، من قولهم‏:‏ عين ساهرة جارية، وفي ضدها‏:‏ عين نائمة، وقيل‏:‏ إنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة، وقيل‏:‏ أرض بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس، وقيل‏:‏ أرض مكة‏.‏ وقيل‏:‏ اسم لجهنّم‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أنَّ الساهرة‏:‏ أرض مِن فضة، لم يُعص اللهَ تعالى عليها قط، خلقها حينئذ‏.‏ وقيل‏:‏ أرض يُجددها الله تعالى يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ الأرض السابعة، يأتي الله بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تُبدل الأرض غير الأرض، وقيل‏:‏ الساهرة‏:‏ أرض صحراء على شفير جهنم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ والأرواح النازعات عن ملاحظة السِّوى غرقاً في بحار الأحدية‏.‏ والناشطات من علائق الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً، والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت، وأسرار الجبروت، سبحاً، فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً، فالمدبرات أمر الكون، بالتصرُّف فيه بالنيابة عن الحق، وهو مقام القطبانية، أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقاً في التجرُّد إلى العبادات بأنواع الطاعات‏.‏ وهذه أنفس العُبّاد، والناشطات عن الدنيا، وأهلها فراراً إلى الله نشطاً، وهي أنفس الزُهّاد والسابحات بعقولها في أسرار العلوم، فتستخرج من الكتاب والسنة درراً ويواقيت، يقع النفع بها إلى يوم الدين، وهي أنفس العلماء الجهابذة، فالسابقات إلى الله بأنواع المجاهدات والسير في المقامات، حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً، سبقاً، وهي أنفس الأولياء العارفين، فالمُدبرات أمر الخلائق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها، وهي أنفس الأقطاب والغوث‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ هذه صفات النفوس وحال سلوكها، فإنها تنزع من الشهوات، وتنشط إلى عالم القدس، فتسْبَح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات، حتى تصير من المكمِّلات، زاد الإمام‏:‏ فتُدبْر أمر الدعوة إلى الله‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ إشارة النازعات إلى صولات صدمات تجلي العظمة، فتنزع الأرواح العاشقة عن معادن الحدوثية‏.‏ ثم قال‏:‏ والناشطات‏:‏ الأرواح الشائقة تخرج من أشباحها بالنشاط، حين عاينت جمال الحق بالبديهة وقت الكشف‏.‏ ثم قال‏:‏ والسابحات تسْبَح في بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته، تطلب فيها أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية، فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت وجنات الجبروت، تُسابق كل همة فالمدبِّرات هي العقول القدسية تُدَبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة‏.‏ ه‏.‏

والمقسَم عليه‏:‏ ليبعَثن اللهُ الأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة، حين تنتبه إلى السير بالذكر والمجاهدة، فإذا حييت بمعرفة الله كانت حياة أبدية‏.‏ وذلك يوم ترجف النفس الراجفة، وذلك حين تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها، تتبعها الرادفة، وهي ظهور أنوار المشاهدة، فحينئذ تُبعث من موتها، وتحيا حياة لا موت بعدها، وأمّا الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام‏.‏ قلوب يومئذ أي‏:‏ يوم المجاهدة والمكابدة واجفة، لا تسكن حتى تُشاهد الحبيب، أبصارُها في حال السير خاشعة لا يُخلع عليها خلعُ العز حتى تصل‏.‏

يقول أهل الإنكار لهذه الطريق‏:‏ أئِنا لمردودون إلى الحالة الأولى، التي كانت الأرواح عليها في الأزل، بعد أن كنا ميتين بالجهالة، مُرْمى بنا في مزابل الغفلة، كعِظام الموتى، قالوا‏:‏ تلك كرة خاسرة، لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يبقَ لهم تمتُّع بشيء أصلاً، مع أنَّ العارف إذا تحقق وصوله تمتع بالنعيمين؛ نعيم الأشباح ونعيم الأرواح‏.‏ قال تعالى في رد ما استحالوه‏:‏ فإنما هي زجرة واحدة من همة عارف، أو نظرة وليّ كامل، فإذا هم في أرض الحضرة القدسية‏.‏ قال الشيخ أو العباس‏:‏ والله ما بيني وبين الرجل إلاَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته‏.‏ قلت‏:‏ والله لقد بقي في زماننا هذا مَن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في الإغناء بالنظرة والملاحظة، والحمد لله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏ فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديثُ موسى‏}‏ تشويقاً لما يُلقى إليه مِن خبره، أي‏:‏ هل أتاك حديثه، أنا أُخبرك به، إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه‏.‏ وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه، وهو المتبادر، فالمعنى‏:‏ أليس قد آتاك حديثه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ ناداه رَبُّه‏}‏‏:‏ ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتهما أي‏:‏ هل وصلك حديثه ناداه ربه ‏{‏بالوادِ المقدّس‏}‏؛ المبارك المطهّر، اسمه‏:‏ ‏{‏طُوى‏}‏ بالصرف وعدمه‏.‏ فقال في ندائه له‏:‏ ‏{‏اذهبْ إِلى فرعون إِنه طَغَى‏}‏؛ تجاوز الحدّ في الكفر والطغيان، ‏{‏فقلْ‏}‏ له بعد أن تأتيه‏:‏ ‏{‏هل لك إِلى أن تزكَّى‏}‏ أي‏:‏ هل لك رغبة وتَوَجُّه إلى التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة والإيمان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ «هل» هو استدعاء حسن‏.‏ قال الكواشي‏:‏ يقال‏:‏ هل لك في كذا‏؟‏ وهل لك إلى كذا‏؟‏ كقولك‏:‏ هل ترغب في كذا، وهل ترغب إلى كذا‏.‏ قال‏:‏ وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبلاغ الرسالة إلى فرعون بصيغة الاستفهام والعرض، ليكون أصغى لأذنه، وأوعى لقلبه، لِما له عليه من حق التربية‏.‏ ه‏.‏ وأصله‏:‏ «تتزكى»، فحذف إحدى التاءين، أو‏:‏ أدغمت، فيمن شدّد الزاي‏.‏

‏{‏وأهْدِيَكَ إِلى ربك‏}‏؛ وأهديك إلى معرفته، بذكر دلائل توحيده وصفات ذاته، ‏{‏فتخشَى‏}‏، لأنَّ الخشية لا تكون إلاَّ مع المعرفة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماؤا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ أي‏:‏ العلماء بالله‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ اعرفوا الله، فمَن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفةَ عين‏.‏ فالخشية ملاك الأمر فمَن خشي الله أتى منه كل خير ومَن أَمِنَ اجترأ على كل شر‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ «مَن خشي أدلج، ومَن أدلج بلغ المنزل» قال النسفي‏:‏ بدأ مخاطبته بالاستفهام، الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه‏:‏ هل لك أن تنزل بنا‏؟‏ وأردفه الكلامَ الرقيق، ليستدعيه باللطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِِّناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ ه‏.‏

‏{‏فأراه الآيةَ الكبرى‏}‏، الفاء‏:‏ فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى، فإنه عليه السلام ما أراه إياها عقب هذا الأمر، بل بعدما جرى بينه وبينه من المحاورات إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 106‏]‏‏.‏ والآية الكبرى‏:‏ العصا، أو‏:‏ هي واليد، لأنهما في حكم آية واحدة‏.‏ ونسبتُها إليه عليه السلام بالنسبة إلى الظاهر، كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 56‏]‏ بالنظر إلى الحقيقة ‏{‏فكذَّب وعَصَى‏}‏ أي‏:‏ كذَّب موسى عليه السلام‏.‏ وسمَّى معجزته سحراً، وعصى اللهَ عزّ وجل بالتمرُّد، بعدما عَلِمَ صحة الأمر ووجوب الطاعة، أشد العصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً‏.‏

وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏ثم أّدْبَر‏}‏ أي‏:‏ تولَّى عن الطاعة، أو‏:‏ انصرف عن المجلس ‏{‏يسعَى‏}‏ في معارضة الآية، أو‏:‏ أدبر هارباً من الثعبان، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العصا انقلب ثعباناً أشعر، فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذرعاً فوضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على القصر، فتوجه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل‏:‏ إنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول‏:‏ يا موسى مُرني بما شئت، وجعل فرعون يقول‏:‏ بالذي أرسلك إلاّ أخذته، فأخذه فعاد عصا‏.‏‏.‏

‏{‏فحشَرَ‏}‏ أي‏:‏ فجمع السحرة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 53‏]‏ أو‏:‏ جمع الناس، ‏{‏فنادَى‏}‏ في المقام الذي اجتمعوا فيه، قيل‏:‏ قام خطيباً، ‏{‏فقال أنا ربكم الأعلَى‏}‏ لا رب فوقي، وكان لهم أصنام يعبدونها‏.‏ وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد قبله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك نهاية في المخارقة، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم‏.‏ ه‏.‏ قيل‏:‏ إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم‏.‏ وكان أول مَن ملكها منهم‏:‏ المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله، وآخرهم العاضد‏.‏ وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

‏{‏فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى‏}‏ بالإغراق، فالنكال‏:‏ مصدر بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه‏.‏ وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد، كوعْدَ الله وصبغةَ الله، وقيل‏:‏ مصدر ل «أخذ»، أي‏:‏ أخذه الله أخذ نكال الآخرة، وقيل‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ أخذه الله لأجل نكال الآخرة‏.‏ وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآخرة والأولى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ كان بين الكلمتين أربعون سنة، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب‏.‏

‏{‏إِنَّ في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به ‏{‏لَعِبرةً‏}‏ عظيمة ‏{‏لِمن‏}‏ شأنه أن ‏{‏يَخْشَى‏}‏ وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب، وفرعون إشارة إلى النفس، فيُقال‏:‏ هل أتاك حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة بعد طي الأكوان عن مرآة نظره، فقال له‏:‏ اذهب إلى فرعون النفس إنه طغى‏.‏

وطغيانها‏:‏ إرادتها العلو والاستظهار، فقل له‏:‏ هل لك إلى أن تَزَكَّى وتتطهر من الخبائث، لتدخل الحضرة، فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى، فإنما يخشى اللهَ مَن عرفه‏.‏ فأراه الآية الكبرى مِن خرق العوائد ومخالفة الهوى، فكَذَّب وعصى، حين رأى عزم القلب على مجاهدته، فحشر جنوده مِن حب الدنيا والرئاسة، وإقبال الناس والحظوظ والشهوات، فنادى، فقال‏:‏ أنا ربكم الأعلى، فلا تعبدوا غيري‏.‏ هذا قول فرعون النفس، فأخذه اللهُ نكال الآخرة والأولى، أي‏:‏ استولى جند القلب عليه، فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء‏.‏ إنَّ في ذلك لعبرة لمَن يخشى، ويسلك طريق التزكية، فإنه يصل إلى بحر الأحدية‏.‏ والله تعالى أعلم بأسرار كتابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 41‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ مخاطباً أهلَ مكة، المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم، وتوبيخاً وتبكيتاً، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ‏}‏ ‏{‏أأنتم أشدُّ خَلْقاً‏}‏ أي‏:‏ أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم ‏{‏أم السماءُ‏}‏ أي‏:‏ أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى‏}‏ ‏[‏يَس‏:‏ 81‏]‏‏.‏ ثم بيَّن كيفية خلقها فقال‏:‏ ‏{‏بناها‏}‏ أي‏:‏ الله، وفي عدم ذكر الفاعل، فيه وفيما عطف عليه، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى‏.‏

‏{‏رَفَعَ سَمْكَها‏}‏ أي‏:‏ أعلى سقفها من الأرض، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام ‏{‏فسوّاها‏}‏ أي‏:‏ فعدّلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو‏:‏ تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم، من قولهم‏:‏ سوَّى فلان أمره‏:‏ إذا أصلحه‏.‏

‏{‏وأغْطشَ ليلها‏}‏ أي‏:‏ أظلمه، ويُقال‏:‏ غطش الليل وأغطشه الله، كما يُقال‏:‏ ظلُم وأظلمه الله‏.‏ ‏{‏وأخرج ضحاها‏}‏ أي‏:‏ أبرز نهارها، عبّر عنه بالضُحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان‏.‏ ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس، أي‏:‏ أبرز ضوء شمسها‏.‏ والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها‏.‏

‏{‏والأرضَ بعد ذلك دحاها‏}‏ أي‏:‏ بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام‏.‏ ثم فسّر الدحو فقال‏:‏ ‏{‏أخرج منها ماءها‏}‏ بتفجير عيونها وإجراء أنهارها، ‏{‏ومرعاها‏}‏؛ كلأها، وهو ما ترعاه البهائم، وهو في الأصل‏:‏ موضع الرعي، أو‏:‏ مصدر ميمي بمعنى المفعول، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها، أو تكملة له، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط، بل لا بد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً، أو‏:‏ لأنها حال بإضمار «قد» عند الجمهور، أو بدونه عند الكوفيين‏.‏

‏{‏والجبالَ أرساها‏}‏ أي‏:‏ أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل‏.‏ وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده‏.‏ ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب‏.‏ وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها، كما يروى عن الحسن‏:‏ من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفِهْر، عليه دخان ملزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏كَانَتَا رَتْقاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الفِهْرُ بالكسر‏:‏ الحَجَرُ قَدْرَ ما يدق به الجَوْزُ، أو ما يملأ الكفَّ‏.‏ ه‏.‏

والتحقيق في المسألة‏:‏ أنَّ أول ما خلق اللهُ العرش من القبضة النورانية المحمدية، ثم خلق ياقوتة صفراء، فذابت من هيبته تعالى فصارت ماء، ثم اضطرب الماء فعلته زبدة، فخلق منها الأرض، ثم علا منه دخان فخلق منه السماء، ثم دحا الأرض وهيّأ فيها أقواتها للناس والأنعام وغيرهما، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ أي‏:‏ فجعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم، فهو مفعول لأجله؛ لأنَّ فائدة البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلة للإنسان والأنعام، أو‏:‏ مصدر من غير لفظه، فإنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخرج منها ماءها ومرعاها‏}‏ في معنى‏:‏ متّعكم بذلك‏.‏

‏{‏فإذا جاءت الطامةُ الكبرى‏}‏ أي‏:‏ الداهية العُظمى التي تطمّ على سائر الدواهي، أي‏:‏ تعلوها وتغلبها، من قولك‏:‏ طمّ الأمر‏:‏ إذا علا وغلب، وهي القيامة، أو النفخة الثانية، أو‏:‏ الساعة التي يُساق فيها الخلائق إلى محشرهم أو‏:‏ التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، ‏{‏يوم يتذكَّرُ الإِنسانُ ما سعَى‏}‏ أي‏:‏ يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر، بأن يُشاهده مدوناً في صحيفته، وقد كان نسيه مِن فرط الغفلة، وطول الأمل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحصاه الله وَنَسُوهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ و«يوم»‏:‏ بدل من «إذا» والأحسن‏:‏ أنه مفعول بفعل محذوف، أي‏:‏ أعني‏.‏ ‏{‏وبُرّزَت الجحيمُ‏}‏ أي‏:‏ أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد ‏{‏لمن يرى‏}‏ كائناً مَن كان، فلا تتوقف رؤيتها إلاّ على وجود حاسة البصر، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب‏.‏ يُروى أنه يُكشف عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر‏.‏

‏{‏فأمَّا مَن طَغَى‏}‏ أي‏:‏ جاوز الحدّ في العصيان ‏{‏وآثر الحياةَ الدنيا‏}‏ الفانية، فانهمك فيما متع به فيها، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة، ‏{‏فإِنَّ الجحيم‏}‏ التي ذكر شأنها ‏{‏هي المأوى‏}‏ أي‏:‏ مأواه‏.‏ فاللام سادّة مسد الإضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي، وجملة «فأمّا»‏:‏ جواب «إذا» على طريقة‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38‏]‏، وقيل‏:‏ جواب «إذا» محذوف، وهي تفصيل له، أي‏:‏ إذا جاءت انقسم الناس على قسمين، فأمّا مَن طغى‏.‏‏.‏ الخ، والذي يستدعيه فخامة التنزُّل، ويقتضيه مقام التهويل؛ أنَّ الجواب المحذوف تقديره‏:‏ يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون، ثم فصَّل أحوال الناس بقوله‏:‏ فأمّا‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

‏{‏وأمّا مَن خاف مَقامَ ربه‏}‏ أي‏:‏ مُقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسانُ ما سعى‏.‏ ‏{‏ونهى النفسَ عن الهوى‏}‏ المُرْدِيِّ، أي‏:‏ زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها، علماً منه بوَخَامة عاقبتها، وقيل‏:‏ هو الرجل يهم بالمعصية فيتذكّر مقامه للحساب فيتركها‏.‏

والهوى‏:‏ ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة، ‏{‏فإِنَّ الجنة هي المأوى‏}‏ له لا لغيره، وسيأتي تحقيقه في الإشارة‏.‏

الإشارة‏:‏ فإذا جاءت الطامة، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات، كيفما تلوّنت، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض، كما في حديث القيامة، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها، فيُنكرونه، ويقولون، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها، فيُقرونه، وهذا لقصورهم في المعرفة، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى، أي‏:‏ وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى‏.‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات، الجمالية والجلالية، العلوية والسفلية، الصورية والمعنوية‏.‏ ه‏.‏

فأمَّا مَن طغى وتبع هواه، وآثر الحياة الدنيا، والاشتغال بها عن الإقبال على الله، فإنَّ الجحيم هي المأوى، أي‏:‏ جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن، وأمّا مَن خاف مقام ربه، أي‏:‏ قيام ربه بالأشياء، أو على الأشياء، واطلاعه عليها، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب، فالأول لأهل المشاهدة، والثاني لأهل المراقبة، والثالث لأهل المحاسبة، ونهى النفسَ عن الهوى، عن كل ما يشغل عن الله، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه، مما تهواه النفوس، فإنّ الجنة هي المأوى، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم، حين وجب عليهم ترك النفوس، وشرَه هواها، والميل إلى حظوظها، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته، وهي جنة العارفين، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى، فإنّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية، فجانست الأرواح الملكوتية، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام‏؟‏ وهم خلقوا من الجهالة، فيموتون في الضلالة، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين أي أهل الجنة الحسية والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أسلم شيطاني» وقال‏:‏ «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح» ثم قال عن سهل‏:‏ لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين، ليس كلهم، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، وقليل ما هم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعةِ أيّان مُرْسَاها‏}‏ أي‏:‏ متى إرساؤها، أي‏:‏ إقامتها، يُريدون‏:‏ متى يُقيمها الله تعالى ويكوّنها، وقيل‏:‏ إيّان منتهاها ومستقرها، كما أنّ مرسى السفينة المحل التي تنتهي إليه وتستقر فيه، ‏{‏فِيمَ أنتَ مِن ذِكراها‏}‏ أيّ‏:‏ في أي شيء أنت مِن أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به‏؟‏ أي‏:‏ ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شيءٍ حتى يسألونك بيانها، إنما أنت نذير بها، كقولك‏:‏ ليس فلان من العلم في شيءٍ وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها، لأنَّ علمها مما استأثر به علاّم الغيوب وقيل‏:‏ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فكفّ، فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها، أي‏:‏ أنت في شُغل وأي شغل أنت من الاهتمام بالسؤال عنها‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً، فما نزلت هذه الآية انتهى عن ذلك‏.‏ ولا يرده قوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ أي‏:‏ إنهم يزعمون أنك مُبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما يزعمون، لأنّا نقول هذه الآية نزلت قبل تلك، وأنه كان أولاً يسأل عنها حتى نُهي بهذه الآية فانتهى، كما ذكر في الحديث المذكور، فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال القشيري‏:‏ من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك، وقيل‏:‏ يوقف على قوله‏:‏ «فِيمَ» أي‏:‏ هذا السؤال الذي يسألونك فيم، أي‏:‏ في أي شيء هو، فيكون إنكاراً لسؤالهم، ثم ابتدأ‏:‏ «مِن ذكراها» أي‏:‏ إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها، أي‏:‏ أشراطها وعلامتها، ومؤذن بقيامها، فلا حاجة لسؤالهم عنها، ويرده‏:‏ عدم الإتيان بهاء السكت، ويجاب‏:‏ بأنه ليس بلازم، وإنما تَلزمُ فيما جرّ بإضافة اسم، لبقائه على حرف واحد، كما هو مقرر في محله، مع عدم ثبوته في المصحف‏.‏

ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها، فقال‏:‏ ‏{‏إِلى ربك منتهاها‏}‏؛ منتهى علمها متى يكون، لا يعلمها غيره، ‏{‏إِنما أنت منذرُ من يخشاها‏}‏ أي‏:‏ لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة، وإنما بُعثت لتُخوّف مِن أهوالها مَن يخاف شدائدها، ‏{‏كأنهم يوم يرونها‏}‏ أي‏:‏ الساعة ‏{‏لم يَلبثوا‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِلاَّ عشيةً أو ضُحاها‏}‏ أي‏:‏ ضحى العشية، استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول، كقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ وإنما صحّ إضافة الضحى إلى العشية للملابسة، لاجتماعهما في نهارٍ واحد، والمراد‏:‏ أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن أحد طرفي النهار عشية يومٍ واحدٍ أوضحاه‏.‏

وقال أبو السعود‏:‏ الآية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذَر به، أي‏:‏ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلاّ عشية يوم واحد أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته‏.‏

وإمّا رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستهزاء مسعجلين لها، فالمعنى‏:‏ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلاّ عشية أو ضُحاها، واعتبار كون اللبث في القبور أو في الدنيا لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد، تحقيقاً للإنذار، وردًّا لاستبطائهم‏.‏ والجملة على الأول‏:‏ حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعلى عدمها مفعول لمُنذر، كما أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النهار‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 45‏]‏ حال من الضمير في «نحشرهم» أي‏:‏ نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، خلا أن التشبيه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة، وفيما نحن فيه من الاعتقاد، كأنه قيل‏:‏ عِدْهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمَن لم يلبث بعد الإنذار بها إلاّ تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني‏:‏ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح الله فيها على المتوجِّه بالدخول في مقام الفناء في الذات، أيَّان مُرْساها، إنما أنت منذر مَن يخشى فواتها، أي‏:‏ إنما أنت مُبَيّن الطريق التي توصل إليها، وتُخوِّف من العوائق التي تعوق عنها، وليس مِن وظيفتك الإعلام بوقتها، لأنها موهبة من الكريم الوهّاب كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها، أي‏:‏ يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها‏.‏ وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏عَبَسَ‏}‏ أي‏:‏ كلح ‏{‏وتَوَلَّى‏}‏؛ أعرض ‏{‏أن جاءه‏}‏ أي‏:‏ لأن جاءه ‏{‏الأعمَى‏}‏، وهو عبدالله ابن أمِّ مكتوم، وأمُّ مكتوم‏:‏ أمُّ أبيه، وأبوه‏:‏ شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، وذلك أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال‏:‏ يا رسول الله علِّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكرمه، ويقول إذا رأه‏:‏ «مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي»، ويقول‏:‏ «هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة مرتين‏.‏

ولم يُواجهه تعالى بالخطاب، فلم يقل‏:‏ عبستَ وتوليتَ؛ رفقاً به وملاطفة؛ لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما‏.‏ و«أن جاءه»‏:‏ علة ل «تولَّى»، أو «عبس»، على اختلاف المذهبين في التنازع، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم، والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة، وإمّا لزيادة الإنكار، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏وما يُدْرِيك‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه ‏{‏لعله يَزَّكَّى‏}‏؛ لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل، وأصله‏:‏ يتزكَّى، فأدغم‏.‏ وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء، أو‏:‏ على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يذَّكَّرُ‏}‏‏:‏ عطف على «يزّكى»، داخل في حكم الترجي، قوله‏:‏ ‏{‏فتَنفَعه الذِكرَى‏}‏‏:‏ عطف على «يذَّكَّر»، ومَن نصبه فجواب الترجي، أي‏:‏ أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، أي‏:‏ إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك‏.‏

‏{‏أمَّا مَن استغنى‏}‏ أي‏:‏ مَن كان غنياً بالمال، أو‏:‏ استغنى عن الإيمان، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن ‏{‏فأنت له تَصَدّى‏}‏؛ تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه‏.‏ وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله‏.‏

‏{‏وما عليك ألاَّ يزَّكَّى‏}‏ أي‏:‏ وليس عليك بأس في ألاَّ يزَّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره، وتُعرض عمن أسلم وأقبل إليك، وقيل‏:‏ «ما» استفهامية، أي‏:‏ أيُّ شيء عليك في ألاّ يزكّى هذا الكافر‏.‏

‏{‏وأمّا مَن جاءك يسعى‏}‏ أي‏:‏ حال كونه مسرعاً طالباً لِما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير، ‏{‏وهو يخشى‏}‏ الله تعالى أو الكفار، أي‏:‏ أذاهم في إتيانك، أو‏:‏ الكبوة، أي‏:‏ السقطة، كعادة العميان، ‏{‏فأنت عنه تَلَهَّى‏}‏؛ تتشاغل، وأصله‏:‏ تتلهى‏.‏ رُوي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدَّى لغَني بعدُ‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏ أي‏:‏ لا تَعُدْ إلى مثلها‏.‏ وحاصل العتاب‏:‏ ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً، ولكن نبَّهه اللّهُ تعالى على طريق الأولى في سلوك الدعوة إليه، وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم، بخلاف الأغنياء، لتكبُّرهم وتعاظمهم‏.‏ ولذلك لم يتعرض صلى الله عليه وسلم لغَنِي بعدها، ولم يُعرض عن فقير، وكذلك ينبغي لفضلاء أمته من العلماء الدعاة إلى الله، وقد كان الفقراء في مجلس الثوري أُمراء‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنها تذكرةٌ‏}‏؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها، ويُعمل بموجبها، وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه مَن تصدّى له، ‏{‏فمَن شاء ذّكَرَه‏}‏ أي‏:‏ فمَن شاء اللّهُ أن يذكره ذكره‏.‏ أي‏:‏ ألهمه الله الاتعاظ به، أو‏:‏ مَن شاء حفظه واتعظ به، ومَن رغب عنها، كما فعله المستغني، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره‏.‏

وذكّر الضمير؛ لأنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ‏.‏ وقال أبو السعود‏:‏ الضميران للقرآن، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل‏:‏ الأول للسورة، أو للآيات السابقة، والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر والوعظ، وليس بذلك؛ فإنَّ السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة، لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه، واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه، والتعجب مِن كفره المفرط، لنزولها بعد الحادثة، وأمّا مَن جَوْز رجوعهما إلى العتاب المذكور، فقد أخطأ وأساء الأدب، وخبط خبطاً يقضي منه العجب، فتأمّل‏.‏ ه‏.‏

وحاصِلُ المعنى‏:‏ أنَّ هذه الآيات أي آيات القرآن تذكرة، فمَن شاء فليتعظ بها، حاصلة ‏{‏في صُحُفٍ‏}‏ منتسخة من اللوح، ‏{‏مُكَرَّمةٍ‏}‏ عند الله عزّ وجل، ‏{‏مرفوعةٍ‏}‏ في السماء السابعة، أو‏:‏ مرفوعة المقدار والمنزِلة، ‏{‏مُطَهَّرةٍ‏}‏ عن مساس أيدي الشياطين، أو‏:‏ عما ليس من كلام الله تعالى أو‏:‏ مِن خللٍ في اللفظ أو المعنى، ‏{‏بأيدي سَفَرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ كَتَبَة من الملائكة، يستنسخون الكتبَ من اللوح، على أنه جمع‏:‏ «سافِرٍ»، من السَّفْر، وهو الكتب، وقيل‏:‏ بأيدي رسل من الملائكة يَسْفِرون بالوحي، بينه تعالى وبين أنبيائه، على أنه جمع «سفير» من السِفارة، وحَمْل «السَفَرة» على الأنبياء عليهم السلام أو على القُراء، لأنهم يقرؤون الأسفار، أو على الصحابة رضوان الله عليهم بعيد؛ لأنَّ هذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تُطلق على غيرهم، وقال القرطبي‏:‏ «المراد بقوله تعالى في الواقعة‏:‏

‏{‏لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏ هؤلاء السَفَرة «‏.‏ ‏{‏كِرام‏}‏ عند الله تعالى، أو‏:‏ متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم ويستغفرون لهم، ‏{‏بررةٍ‏}‏؛ أتقياء، أو‏:‏ مطيعين لله تعالى، من قولهم‏:‏ فلان يبر خالقه، أي‏:‏ يُطيعه، أو‏:‏ صادقين، من قولهم‏:‏ برّ في يمينه‏:‏ صدق‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح، سواء كانوا ضعفاء الأموال، أو ضعفاء الأبدان، كالعُميان والمحبوسين والمرضى، أو‏:‏ ضعفاء اليقين، إن أقبلوا إليه فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك رأيتُ حال أشياخنا رضي الله عنهم يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى، قالوا‏:‏ يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه‏.‏ نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء؛ لشرفهم عند الله، إلاّ إن كانوا راسخين، فيُقَدِّم عليهم غيرهم؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ بيَّن الله تعالى هنا يعني في هذه الآية درجةَ الفقر، وتعظيم أهله، وخِسّة الدنيا، وتحقير أهلها، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له، وهو من أهل الصُحبة، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء، ودعوتهم إلى طريق الفقراء، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد، فالصُحبة معهم ضائعة، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏أمّا مَن استغنى‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 32‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإِنسانُ‏}‏ أي‏:‏ لُعن، والمراد‏:‏ إمّا مَن استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نُعُوته الجليلة، الموجبة للإقبال عليه، والإيمان به، وإمّا الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أُميّة أو‏:‏ عُتبة بن ربيعة‏.‏ ‏{‏ما أكْفَرَه‏}‏، ما أشد كفره‏!‏ تعجبٌ من إفراطه في الكفران، وبيانٌ لاستحقاقه الدعاء عليه، وقيل‏:‏ «ما» استفهامية، توبيخي، أي‏:‏ أيُّ شيء حَمَلَه على الكفر‏؟‏‏!‏ ‏{‏من أي شيءٍ خَلَقهُ‏}‏ أي‏:‏ من أيِّ شيءٍ حقيرٍ خلَقَه‏؟‏ ثم بيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏من نطفةٍ خَلَقَه‏}‏ أي‏:‏ مِن نطفة مذرة ابتداء خلقه، ‏{‏فقدَّره‏}‏؛ فهيّأه لِما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال، أو‏:‏ فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه‏.‏

‏{‏ثم السبيلَ يَسَّرهُ‏}‏ أي‏:‏ يَسّر له سبيل الخروج من بطن أمه، بأن فتح له فم الرحم، وألهمه أن يتنكّس ليسهل خروجه‏.‏ وتعريف «السبيل» باللام للإشعار بالعموم، أو‏:‏ يَسْر له سبيل الخير أو الشر، على ماسبق له، أو يَسْر له سبيل النظر السديد، المؤدِّي إلى الإيمان، وهو منصوب بفعل يُفسره ما بعده‏.‏

‏{‏ثم أماته فأقْبَره‏}‏ أي‏:‏ جعله ذا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً، ولم يجعله مطروداً على وجه الأرض تأكله السباع والطير، كسائر الحيوان‏.‏ يُقال‏:‏ قبرتَ الميت‏:‏ إذا دفنته، وأقبرته‏:‏ أمرت بدفنه‏.‏ وعدّ الإماتة من النِعم؛ لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم، ولأنها سبب وصول الحبيب إلى حبيبه‏.‏ ‏{‏ثم إِذا شاء أنْشَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ إذا شاء نَشْرَه، على القاعدة المستمرة مِن حذف مفعول المشيئة، أي‏:‏ ثم ينشره في الوقت الذي شاء، وهو يوم القيامة، وفي تعلُّق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأنّ وقته غير متعين، قال ابن عرفة‏:‏ تعليق المعاد بالمشيئة جائز، جارٍ على مذهب أهل السنة؛ لأنهم يقولون‏:‏ إنه جائز عقلاً، واجب شرعاً، وأمّا المعتزلة فيقولون بوجوبه، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين‏.‏ ه‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع للإنسان عما هو عليه، ثم بيَّن سبب الردع فقال‏:‏ ‏{‏لمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ‏}‏ أي‏:‏ لم يقضِ العبد جميع ما أمَرَه اللهُ به؛ إذ لا يخلوا العبد من تقصيرٍ ما، فإن قلت‏:‏ «لَمَّا» تقتضي توقع منفيها، وهو هنا متعذر كما قلتَ‏؟‏‏.‏ قلتُ‏:‏ الأمر الذي أمر الله به عبادَه في الجملة‏:‏ هو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وهو ممكن عادة، متوقع في الجملة وقد وصل إليه كثير من أوليائه تعالى، فمَن وصل إليه فلا تقصير في حقه، وإن كانت المعرفة غير متناهية، ومَن لم يصل إليه فهومُقصِّر، غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم أَمَرَ بالتفكُّر في نِعم الله، ليكون سبباً للشكر، الذي هو‏:‏ صرف كلية العبد في طاعة مولاه، فلعله يقضي ما أَمَرَه فقال‏:‏ ‏{‏فلينظر الإِنسانُ إِلى طعامه‏}‏ أي‏:‏ فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام بدنه، وعليه يدور أمر معاشه، كيف صيَّرناه، ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ‏}‏ أي‏:‏ الغيث ‏{‏صَبًّا‏}‏ عجيباً، فمَن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام، وبالكسر استئناف‏.‏

‏{‏ثم شققنا الأرضَ‏}‏ بإخراج النبات، أو‏:‏ بالحرث، وهو فعل الله في الحقيقة؛ إذ لا فاعل سواه، ‏{‏شَقًّا‏}‏ بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات، صِغراً أو كِبراً، وشكلاً وهيئة، أو‏:‏ شقاً بليغاً؛ إذ لا ينبت بمطلق الشق، وإذا نبت لا يتم عادة‏.‏ و«ثم» للتراخي التي بين الصبّ والشق عادة، سواء قلنا بالنبات أو بالكَراب، وهو الحراثة‏.‏

‏{‏فأنبتنا فيها حَبًّا‏}‏ كالبُر والشعير وغيرهما مما يتغذّى به‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الحب‏:‏ جمع حبة بفتح الحاء، وهو‏:‏ كل ما يتخذه الناس ويُرَبونه، والحِبة بكسر الحاء‏:‏ كل ما ينبت من البذور ولا يُحْفل به ولا هو بمتخَذ‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وعِنباً‏}‏ أي‏:‏ ثمرة الكَرْم، وهذا يؤيد أن المراد بالشق‏:‏ حفر الأرض بالحرث أو غيره، لأنَّ العنب لا يشق الأرض في نباته، وإنما يغرس عوداً‏.‏ وقال أبو السعود‏:‏ وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه، فلا ضرر في في خُلُو نبات العنب عن شق الأرض‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وقَضْباً‏}‏ وهو كل ما يقضب، أي‏:‏ يُقطع ليُؤكل رطباً من النبات، كالبقول والهِلْيَوْن ونحوه مما يُؤكل غضاً، وهو جملة النِعَم التي أنعم الله بها، ولا ذكر له في هذه الآية إلاّ في هذه اللفظة‏.‏ قاله ابن عطية‏.‏ والهِلْيَوْن بكسر الهاء وسكون اللام‏:‏ جمع هليونة، وهو الهِنْدَبا‏.‏ قاله ابن عرفة اللغوي، وقيل‏:‏ هو الفِصْفَصَة، وهو ضعيف؛ لأنها للبهائم، وهي داخلة في الأَبْ‏.‏

‏{‏وزيتوناً ونخلا‏}‏، الكلام فيهما كما تقدّم في العنب، ‏{‏وحدائقَ‏}‏؛ بساتين ‏{‏غُلْباً‏}‏‏:‏ جمع غلباء، أي‏:‏ غلاظ الأشجار مع نعومتها، وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها، ‏{‏وفاكهةً‏}‏ أي‏:‏ ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف، ‏{‏وأبًّا‏}‏ أي‏:‏ مرعَى لدوابكم، من‏:‏ أبَّه‏:‏ إذا أمَّه أي قصده، لأنه يُؤم وينتجع، اي‏:‏ يُقصد، أو‏:‏ من أب لكذا‏:‏ إذا تهيأ له؛ لأنه مُتهيأ للرعي، أو‏:‏ فاكهة يابسة تُؤب للشتاء‏.‏

وعن الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه سُئل عن الأب، فقال‏:‏ أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية، فقال‏:‏ كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ‏؟‏ ثم رفع عصاً كانت بيده، فقال‏:‏ هذا لعَمْرُ الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أمر عمر، ألاَّ تدري ما الأبُّ‏؟‏ ثم قال‏:‏ اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه‏.‏ ه‏.‏ وهذه اللفظة من لغات البادية، فلذلك خفيت على الحواضر‏.‏

‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ أي‏:‏ جعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم، وبعضها علف لدوابهم، و‏{‏متاعاً‏}‏‏:‏ مفعول لأجله، أو‏:‏ مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد، أي‏:‏ متّعكم بذلك متاعاً، والالتفات لتكميل الامتنان، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قُتل الإنسان؛ لُعن الغافل عن ذكر الله لقوله عليه السلام‏:‏ «الدنيا مَلعونَةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلاَّ ذِكْرُ الله وما وَالاهُ، وعالماً ومُتَعلِّماً»، فلم يخرج من اللعنة إلاّ الذاكر والعالِم والمتعلم إذا أخلصا، ثم عجب تعالى من شِدة كفره لنِعمه، حيث لم يُشاهد المُنعِّم في النِعم، فيقبض منه، ويدفع إليه، ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه، وما تقوم به بِنْيتِه فيما بينهما؛ ليحضه على الشكر‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏من أيّ شيء خلقه‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، يعني‏:‏ ما كان له ليكفر، لأنّا خلقناه من نطفة الوجود المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا، وأسمائنا‏.‏ ه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ثم السبيل يَسَّره‏}‏ أي‏:‏ سهلنا عليه سبيل الظهور لِمَظاهر الأسماء الجلالية والجمالية، ثم أماته عن أنانيته، فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء، ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء‏.‏ كلاَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا، وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا، ليكون شاكراً لأنعُمنا، لمَّا يقضِ ما اَمَرَه، وهو الوصول إلى حضرة العيان‏.‏ فكل مَن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد قضى ما أَمَرَه به مولاه، وكل مَن لم يصل إليها فهو مُقَصِّر، ولو أعطي عبادة الثقلين‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويُقال‏:‏ لم يقضِ الله له أمره به، ولو قضى له ما أمره به لَمَا عصاه‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ لم يفِ بالعهد الأول، حين خاطبه الحق بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ولم يأتِ بمراد الله منه، وهو العبودية الخالصة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ يعني مع انضمام شهود عظمة الربوبية الصافية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسانُ إلى طعامه‏}‏ أي‏:‏ الحسي والمعنوي، وهو قوت القلوب والأرواح، أنَّا صببنا الماء صبًّا، أي‏:‏ صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب الميتة فحييت‏.‏ قال القشيري‏:‏ صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد‏.‏ ه‏.‏ ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية، شقًّا، فأنبتنا فيها‏:‏ في قلبها حَبَّ المحبة، وكَرْمَ الخمرة الأزلية، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة، وحدائق، أي‏:‏ بساتين المعارف متكاثفة التجليات، وأبًّا، أي‏:‏ مرعى لأرواحكم، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية، فيأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، كما قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه‏:‏

الخلقُ نوار وأنا رعيت فيهم *** هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم

متاعاً لكم، أي‏:‏ لقلوبكم وأرواحكم، بتقوية العرفان في مقام الإحسان، ولأنعامكم أي‏:‏ نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِذا جاءت الصَّاخةُ‏}‏ أي‏:‏ صيحة القيامة، وهي في الأصل‏:‏ الداهية العظيمة، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها، اي‏:‏ يُصيخون لها، مِن‏:‏ صَخَّ لحديثه‏:‏ إذا أصاخ له واستمع، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها، وقيل‏:‏ هي الصيحة التي تصخ الآذان، أي‏:‏ تصمها، لشدة وقعها‏.‏ وجواب ‏(‏إذا‏)‏‏:‏ محذوف أي‏:‏ كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة، يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏يومَ يفرُّ المرءُ من أخيه‏}‏، فالظرف متعلق بذلك الجواب، وقيل‏:‏ منصوب بأعني، وقيل‏:‏ بدل من «إذا» أي‏:‏ يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه، ‏{‏و‏}‏ يفرُّ أيضاً من ‏{‏أُمهِ وأبيهِ‏}‏ مع شدة محبتهم فيه في الدنيا، ‏{‏وصاحبتهِ‏}‏ أي‏:‏ زوجته ‏{‏وبنيهِ‏}‏، بدأ بالأخ ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أحبُّ، فالآية من باب الترقي‏.‏ وقيل‏:‏ أول مَن يفرُّ من أخيه‏:‏ هابيل، ومن أبويه‏:‏ إبراهيم، ومن صاحبته‏:‏ نوح ولوط، ومن ابنه‏:‏ نوح‏.‏ ‏{‏لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه‏}‏ أي‏:‏ لكل واحد من المذكورين شغل شاغل، وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره‏.‏

ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء، فقال‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ‏}‏ أي‏:‏ مضيئة متهللة، من‏:‏ أسفر الصبح‏:‏ إذا أضاء، قيل‏:‏ ذلك مِن قيام الليل، وقيل‏:‏ مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم، ‏{‏ضاحكةٌ مستبشرةٌ‏}‏ بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة‏.‏ ‏{‏ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ‏}‏ أي‏:‏ غبار وكدور، ‏{‏تَرهقها‏}‏ أي‏:‏ تعلوها وتغشاها ‏{‏قَتَرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ سواد وظُلمة ‏{‏أولئك هم الكفرةُ‏}‏، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه‏.‏ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتهم في السوء، أي‏:‏ أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغبرتها هم الكفرة ‏{‏الفجرةُ‏}‏ أي‏:‏ الجامعون بين الكفر والفجور، ولذلك جمع الله لهم بين السواد والغبرة‏.‏ نسأل الله السلامة والعافية‏.‏

الإشارة‏:‏ فإذا جاءت الصاخة، أي‏:‏ النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية فتأنّست القلوب بالله، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة، بواسطة أو بغير واسطة، يفر من الخلق، الأقارب والأجانب، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه ويفارقهم بقلبه، كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها‏:‏

إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي *** وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي

فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس *** وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي

قال القشيري‏:‏ قالوا‏:‏ الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع؛ لأنّ لكل شأناً يُغنيه، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه، ثم ذكر شعر رابعةُ‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألاّ يعتمدوا إلى مَن سواه في الدنيا والآخرة، وأنَّ ما سواه لا ينقذه مِن قبض الله حتى يفرّ مما دون الله إلى الله‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه‏}‏‏:‏ لكل واحدٍ منهم شأن يشغله، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته، يُغنيه عما سوى الله‏.‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مُسْفِرة ضاحكة مستبشِرة‏}‏ كل مَن أَسفر عن ليل وجوده ضياءُ نهار معرفته، فوجهه يوم القيامة مُسْفِر بنور الحبيب ضاحك لشهوده، مستبشر بدوام إقباله ورضوانه‏.‏ وقال أبو طاهر‏:‏ كشف عنها سُتور الغفلة، فضحكت بالدنو من الحق، واستبشرت بمشاهدته‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ أسفر تلك الوجوه نظرُها إلى مولاها، وأضحكها رضاه عنها‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ ضاحكة مستبشرة بأسبابٍ مختلفة، فمنهم مَن استبشر بوصوله إلى حبيبه، ومنهم بوصوله إلى الحور، ومنهم، ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربِّه فرأه، ووجوه عليها غبرة الفراقُ، يرهقها ذُلُّ الحجاب والبعاد‏.‏ ه‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مُسْفِرة‏}‏، وجوه العارفين مُسْفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال الحق فيها، ضاحِكة مِن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها، مستبشرة بخطابه ووجدان رضاه، والعلم ببقائها مع بقاء الله‏.‏ ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين فقال‏:‏ ‏{‏ووجوه يومئذٍ عليه غبرةُ‏}‏ الفراقِ يوم التلاق، وعليها قَتر ذل الحجاب، وظلمة العذاب نعوذ بالله من العتاب قال السري‏:‏ ظاهر عليها حزن البعاد؛ لأنها صارت محجوبة، عن الباب مطرودة، وقال سَهْلٌ‏:‏ غلب عليها إعراض الله عنها، ومقته إياها، فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة‏.‏ ه‏.‏

اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً‏.‏